زينة شهلا – صحفية مستقلة
صباح كل ثلاثاء، تصل فرح التل وهدى محمد إلى مبنى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة دمشق. تدخلان إحدى القاعات، وتحضران على مدى عدة ساعات المحاضرات الخاصة بشهادة الماجستير في علم الاجتماع. ولدى انتهاء اليوم الدراسي تمضيان بعض الوقت في حديقة الجامعة قبل العودة لمنزليهما.
رغم خصوصية العلاقة التي تربط الفتاتين، لا يبدو بأن مظهرهما يلفت أنظار الطلاب أو المدرّسين الذين اعتادوا تواجدهما معاً معظم الوقت، فهدى فتاة صمّاء، وفرح مترجمة للغة الإشارة، اختارت طوعاً مرافقة صديقتها لتكون بديلاً -ولو مؤقتاً- عن حاسة السمع التي فقدتها الفتاة العشرينية منذ الصغر.
“أتممت دراستي الجامعية منذ عامين، واليوم أنا الفتاة الصماء الوحيدة بمرحلة الماجستير”، شرحت لي هدى بإشارات سريعة ونحن نجلس في قاعة المكتبة داخل الكلية، بينما كانت فرح تترجم تلك الإشارات لكلمات منطوقة.
لم يكن من الصعب ملاحظة نظرات المحبة بين الفتاتين، فبالنسبة لهدى، وجود المترجمة أساسي كي تتمكن من فهم المصطلحات والمفاهيم الجديدة والصعبة، والتي لا تكفي الكتابة للإلمام بها. أما فرح، فتشعر بسعادة وفخر كبيرين وهي تدعوني لحضور تخرّج هدى نهاية العام. وتضيف فرح “وصول شخص أصم لهذا المكان إنجاز له ولي، فالصمّ في سوريا هم قضيتي”.
مجتمع يحتاج للتواصل
فرح التل (29 عاماً) هي واحدة من القلائل الذين يعملون كمترجمين محترفين للغة الإشارة اليوم في سوريا، والتي يبلغ عدد الصمّ والبكم فيها وفق الإحصائيات الرسمية حوالي عشرين ألفاً، في حين تقول بعض المنظمات غير الحكومية بأن العدد الحقيقي هو خمسة أضعاف ذلك تقريباً.
دخلت فرح هذا العالم منذ عامها الجامعي الأول في كلية العلوم بدمشق، وهو عالم تقول بأنها سُحرت به منذ الصغر مع مراقبتها اليومية لمترجمي الإشارة في نشرات الأخبار التلفزيونية المختلفة، وانبهارها بكيفية تحويلهم للكلام المنطوق إلى إشارات سريعة دون تفكير أو لحظة توقف.
تعود فرح بذاكرتها إلى أيام طفولتها مسترجعة إياها بسعادة: “وقعتُ في حب تلك الإشارات دون أن أدري تحديداً ما هي ورغم عدم معرفتي بأي أصمّ، وتمكنت يوماً بعد آخر من فك رموز بعضها، فصرت أعرف ما هي الإشارات الخاصة بالحرب والانفجار والعائلة وغيرها من الكلمات الأكثر استخداماً في الأخبار”.
بدأت الفتاة باتباع دورات لتعلّم لغة الإشارة ومن ثم احتراف ترجمتها، الأمر الذي مكنّها من التعرف عن قرب لحياة الصمّ في سوريا، والتي تصفها بأنها صعبة ومليئة بتحديات فرض المجتمع بعضها، وزادت الحرب التي تعيشها البلاد منذ ثمانية أعوام من وطأتها.
من أهم هذه الصعوبات كما تقول فرح افتقار الصمّ لآليات التواصل الملائمة مع المحيط، ابتداء بالأسرة ثم المدرسة، وانتهاء بالمجتمع ككل.
“تجهل كثير من العائلات كيفية التعامل والتواصل مع الأبناء الصمّ خاصة عندما يكون الأب والأم من السامعين”، تقول الفتاة شارحة فكرتها، وتتابع بأن لذلك في بعض الأحيان آثاراً كارثية، والتي قد تصل إلى حد المكوث أغلب الوقت داخل المنزل، حيث يشعر بعض الأهل بالخجل من اختلاط أبنائهم بآخرين مع عدم تقبل المجتمع السوري في كثير من الأحيان للأشخاص ذوي الإعاقة، وتخاف عائلات أخرى من تعرّض أولادها لمواقف محرجة أو خطرة، فتلجأ لعزلهم عن المحيط الخارجي.
صعوبة التواصل هذه تمتد حتى إلى المدرسة والجامعة وأماكن العمل، مع عدم توفّر البيئة التعليمية الملائمة للصمّ سواء داخل المدارس أو الجامعات، وقلّة عدد مترجمي لغة الإشارة، وعدم ملائمة المناهج التعليمية لحاجاتهم الخاصة، وبالتالي حرم آلاف الصم السوريين من فرصهم في التعليم والعمل مع عدم تمكنهم من تحصيل مستوى علمي وعملي مكافئ للسامعين.
صعوبات أكبر خلال الحرب
تلك التحديات تضاعفت بشكل كبير خلال سنوات الحرب كما تشرح فرح، فمن كان منعزلاً من فئة الصم زاد انعزاله، ولم تعد همومهم تشكّل أية أولوية في مجتمع يرزح جميع أفراده تحت وطأة ضغوط اجتماعية واقتصادية ونفسية غير مسبوقة، خاصة مع ازدياد عدد المصابين بإعاقات حركية وتركيز الاهتمام عليهم، ربما على حساب ذوي إعاقات أخرى.
تذكر المترجمة من ضمن هذه التحديات فقر قاموس لغة الإشارة في سوريا بشكل عام، وحاجته للتحديث وإضافة مئات المفردات الجديدة، وهو ما تسعى جاهدة للعمل عليه مع مترجمين آخرين.
وبرزت هذه الحاجة بشكل خاص مع ضرورة مواءمة قاموس الإشارة لمفردات الحرب التي لم يعرفها المجتمع السوري قبل ذلك. أثناء المعارك في مختلف أنحاء سوريا، أضاف الصمّ بعض الإشارات الجديدة لقاموسهم، ومنها مثلاً تلك الخاصة بقذيفة الهاون، حيث يُرسم مسار القذيفة باليد من انطلاقها وحتى سقوطها وانفجارها.
وعند طرحها لهذا المثال، كان لا بد من سؤالها عن تعامل الصمّ مع أصوات الحرب على اختلافها، كالقذائف والصواريخ والطيران الحربي وغيرها. “هم يشعرون بالاهتزاز المرافق لتلك الأصوات، ويسمعونها فقط إن كانت قريبة ومرتفعة بشكل كبير. لعلّ ذلك غيّر لديهم مفهوم الخوف الآني والذي يشعر به السامعون مع مختلف الأصوات.
هذا الاختلاف النسبي في التعامل مع المفاهيم المرافقة للحرب، وعدم القدرة أحياناً على تحديد حجم الخطر زاد من خوف بعض العائلات على الأبناء الصمّ الذين وجدوا أنفسهم -كما تقول فرح- حبيسي منازلهم وغير قادرين على ممارسة حياتهم كما كانت قبل الحرب. وتتذكر هنا كيف كانت تشعر بالخوف على طلابها وأصدقائها من الصم أثناء المعارك التي عاشتها دمشق، وبالمسؤولية عن حمايتهم مع عجزهم أحياناً عن سماع أصوات القذائف والتفجيرات.
ومع الصمّ حتى النهاية
إلى جانب عملها التطوعي في جمعية الصمّ بدمشق والإشراف على عدد من النشاطات هناك، تقضي فرح التل يومها بين تعليم العلوم الطبيعية -وهو اختصاصها الجامعي-، وبين أنشطة تخص الترجمة بلغة الإشارة وتقويم النطق، سواء لأصدقائها وأكثرهم من الصمّ الذين تشعر معهم باندماج كبير، أو ضمن نشاطات مجتمعية مختلفة.
إضافة لذلك، فرح اليوم طالبة في السنة الثانية بكلية التربية الخاصة بجامعة دمشق، ولذلك حكاية أخرى كما تقول، حيث اعتادت مرافقة طلاب صم خلال أعوامهم الدراسية في تلك الكلية، كي تكون مسؤولة عن ترجمة المحتوى التعليمي والمحاضرات لهم. بذلك، قررت منذ عامين الانضمام إليهم لتصبح طالبة ومترجمة في آن معاً.
“رغم أنني لم أعاني يوماً من هذه الإعاقة، إلا أنني أعتبر بأن قضايا الصمّ في سوريا اليوم تخصني لأبعد حد بسبب افتقادهم للغة التواصل الملائمة مع المجتمع، وكذلك تراجع حالهم خلال الأعوام الأخيرة”، تقول الفتاة وتحكي بحماس عن أحلامها وتطلعاتها، ومنها أن تساهم بتطوير مناهج تعليمية للصمّ، وبشكل خاص للمواد العلمية التي تحتاج الكثير من المفردات الجديدة بلغة الإشارة.
وتضحك فرح عندما أسألها إن كانت تعتبر نفسها قدوة لغيرها من السوريات. تقول ونحن خارجتان من مبنى كلية الآداب: “كل ما أعرفه بأنني أمتلك هدفاً سأسعى نحوه حتى النهاية رغم الصعوبات ومنها عدم تقبل عائلتي بشكل كبير لهذا العمل. أن أرى ضحكة طفل أصمّ أعلم بأنني ساعدته على التواصل بشكل أفضل مع من حوله، هي أجمل مكافأة أحصل عليها”.
المصدر BBC