لا جدال في أن استقصاء الرأي العام هو أحد الأليات التي تستخدمها سلطات أي دولة تحترم شعبها لمعرفة توجهاته والسعي إلى تلبية متطلباته، ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا المعلومات ووسائل الإعلام الدولي التي جعلت من عالمنا قرية صغيرة، ظهر ما يعرف بالرأي العام العالمي وهو رأي الشعوب وتوجهاتها تجاه القضايا الإنسانية التي تتسم بالصبغة العالمية، وهنا تطالب الشعوب حكوماتها وممثليها على المستوى الدولي باتخاذ الإجراءات التي تراها مناسبة وفقاً لرؤيتها لتلك القضايا الإنسانية العالمية.
وعليه فإن الرأي العام العالمي هو رأي الشعوب تجاه القضايا المطروحة على الساحة الدولية، وهو ما يتم التعبير عنه من خلال المطالبات الجماعية للافراد في أي دولة، أو من خلال منظمات المجتمع المدني التي تعمل في إطار من الاستقلاليه عن السلطات الرسمية للدول التي تعمل في إقليمها.
والتساؤل الذي اطرحه هنا هو هل يستطيع الرأي العام العالمي نجدة الشعب الفلسطيني؟
ولعله من المناسب، قبل أن اتعرض لإجابة هذا التساؤل، أن اوضح ما آلت إلية الكارثة الإنسانية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، والتي تظهرها الأرقام الواردة في التقارير الدولية والتي تم الإعلان عنها في مواقع المنظمات الدولية ونقلتها وسائل الإعلام العالمية.
منذ أكتوبر 2023 وحتى يوليو 2025 بلغ عدد الوفيات من الفلسطينين حولي 58.000، وما يؤسف أن 31% من هذا الرقم هم أطفال ويقدر عددهم بحوالي 17.921 طفل، إضافة إلى 16% من النساء أي حوالي 9.497، ومنهم 7% من المسنون ويقدر عددهم بحوالي 4.307، وتقدر نسبة القتلى من الرجال 46% أي حوالي 26.655.
والكارثة الإنسانية الحقيقية أن ما تبقى من الفلسطينين يعيشون حالياً بين الحياة والموت، ويقدر عددهم بحوالي 2.2 مليون فلسطيني يعانون من نقاص حاد في الماء والغذاء والدواء، فلا منازل تأويهم ولا مستشفيات تعالجهم. ووفقاً للتقارير الدولية يعاني 470.000 منهم من جوع كارثي، ومنهم 17.000 من الأمهات يحتجن لعلاج من سوء التغذية الحاد، 71.000 طفل دون سن الخامسة يواجهون خطر الموت جوعاً ويحتاجون للعلاج من تدهور حالتهم الصحية الناتج عن سوء التغذية.
ومن أسف أن الضغط الإسرائيلي يزداد على القطاع يوماً بعد يوم، إلى أن اصبح هؤلاء الأشخاص يعيشون في 12% فقط من مساحة القطاع.
وتواجه المساعدات الإنسانية التي تحاول الكثير من الدول إرسالها للفلسطينين الذين يواجهون خطر الموت يومياً في القطاع الكثير من العراقيل والتحديات التي تفرضها السلطات الأسرائيلية.
ومع اعلان التقارير الدولية التي أصدرتها الكثير من المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة ووكالتها المتخصصة أصبحت تلك المأساة الإنسانية موثقة أمام شعوب العالم اجمع، وهو ما دفع الكثير من منظمات المجتمع المدني حول العالم لمطالبة سلطات دولها بالعمل على وقف العدوان على الشعب الفلسطيني الذي ينتهك كل قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
ومؤخرا، اصدر أعضاء بمجلس الشيوخ الأمريكي بياناً مشتركاً يوم الجمعة الموافق 26 يوليو 2025 طالبوا من خلاله رئيس الوزراء الإسرائيلي بتغيير مسارة في الحرب على غزة فوراً، وطالب البيان إدارة الرئيس ترامب بالضغط على نتياهو لوقف هذه الحرب، وجاء في البيان “إن الأوضاع الإنسانية في غزة مروّعة وغير مقبولة، وقد حذّرت أكثر من 100 منظمة غير حكومية هذا الاسبوع من انتشار المجاعة على نطاق واسع، وبعد قرابة ثلاثة أشهر من الحصار الذي فرضه رئيس الوزراء نتنياهو على المساعدات الإنسانية، بات ثلاثة أرباع السكان يواجهون مستويات طارئة أو كارثية من الجوع، وحذر البيان من أن استمرار الحرب دون أفق سياسي أو خطة واضحة، كما أن استمرار الحرب لا يخدم المصالح الأمنية لإسرائيل، ويزيد من حدة المعاناة الإنسانية ويقوض فرص الاستقرار الإقليمي، وأكد البيان على أهمية تمكين المنظمات الإنسانية من العمل داخل القطاع”.
والتساؤل الذي يطرح الأن هو، هل ستنجح هذه المطالبات في تغيير موقف الولايات المتحدة الأمريكية من إسرائيل، وتوجيه إدارة الرئيس ترامب نحو الضغط على الحكومية الإسرائيلية لأنهاء هذه الأزمة التي باتت تؤرق ضمير العالم كله.
قبل الإجابة عن هذا التساؤل يجب أن نتذكر ان المطالبات الشعبية بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة قد اجتاحت دول العالم خلال الفترة الماضية، ومن بينها الكثير من الدول الأوربية، كما يجب أن نتذكر أن بعض الدول الأوربية غيرت موقفها تجاه إسرائيل واذكر منها فرنسا، حيث اعلان الرئيس ماكرون اعتزام فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية رسمياً خلال الشق رفيع المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر المقبل بنيويورك، وأكد على أن حل الدولتين هو السبيل الوحيد لاستعادة السلام وتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني والإسرائيلي.
وأمام غضب الرأي العام العالمي من الممارسات الإسرائيلية التي تنتهك كل معاني الإنسانية في الأراضي الفلسطينية يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تعيد التفكير في موقفها الداعم لإسرائيل، خاصة وأن دعم إسرائيل في مواجهة حماس يختلف تماماً عن دعمها في مواجهة هؤلاء الأطفال والنساء والمسنين الذين قتلوا ولا يزالون يواجهون خطر الموت كل يوم.
فالخلط بين الشعب الفلسطيني وحماس بوصفها منظمة إرهابية وفقا لتصنيفها في الكثير من الدول الأوربية هو العقبة الكؤود التي حالت دون التوصل لتسوية حقيقية للقضية الفلسطينية على مدار تاريخها،
ونتذكر هنا وزير الخارجية السعودي حين قال إن “سياسة الحكومة الإسرائيلية في تمكين سيطرة حماس على غزة بعد الحرب، لإجهاض حل الدولتين والاعمار” وفي اعتقادي أن هذا التصريح هو الأخطر والأهم في تحليل القضية الفلسطينية ورصد معوقات حلها.
وقد بدى واضحاً للعالم اليوم أن نتنياهو يحاول إنهاء القضية الفلسطينية بتهجير الفلسطينيين من القطاع وقد باءت محاولاته بالفشل، وبعد أن نجحت آلة الحرب الإسرائيلية في جعل القطاع مكاناً لا يصلح للحياة الأدمية، طرحت خطط إعادة الإعمار، إلا أن الحكومة الإسرائيلية تقف حائلا أمام عودة الفلسطينيين لأرضاهم أو عودة مقومات الحياة الأساسية لهذا الشعب للضغط عليهم في اتجاه تهجيرهم قسرياً. والحل الذي يراه الكثيرين لحل هذه الأزمة هو ضغط الولايات المتحدة على الحكومة الإسرائيلية.
وعلية فإن إدارة الولايات المتحدة الأمريكية بما لها من قوة وقدرة على التأثير في القرار الإسرائيلي يجب أن تستجيب لمطالب تدخلها لإنهاء هذه الحرب وأن تكون داعمة لتسوية عادلة وشاملة للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين وفقاً لمرجعيات الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، ودعم إقامة دولة فلسطينية مستقلة تضمن للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة.
ويمثل هذا التوجه الخيار الأمثل للإدارة الأمريكية ويستند ذلك على ثلاث أسباب:
أولها: أن الموقف الأمريكي الداعم لتسوية هذه الأزمة وإنقاذ الفلسطينيين من الكارثة الإنسانية التي يعيشونها سيكون داعماً للشعب الإسرائيلي بقدر دعمه للشعب الفلسطيني، حيث أن المطلع على تحليل توجهات الرأي العام الإسرائيلي يعلم جيداً أن الإسرائيليين يريدون إنهاء هذه الحرب.
ثانياً: الوعي بمخاطر توسع رقعة النزاع في المنطقة في ظل توحد الموقف العربي الرافض لتهجير الفلسطينيين والمدعوم من الكثير من القوى الدولية الكبرى.
ثالثاً: إدراك أن الموقف الأمريكي الداعم للحكومة الإسرائيلية أثر بشكل مباشر على صورة الولايات المتحدة أمام شعوب العالم بشكل سلبي، وهي الصورة التي انفقت الولايات المتحدة على تكوينها مليارات الدولارات لتكون الحلم الأمريكي في أذهان شعوب العالم وخاصة الشباب بوصفها رمز الحرية والعدالة والديمقراطية.
قد يعجبك ايضا
