ترسم عزّة في عتمة عينيها قوّة تُخرجها إلى النور. هي عازفة تشيلّو كفيفة، كلّما لامست أصابعها أوتار الآلة دلف الضوء إلى أعماقها، فاتّحدت مع خيطان الشمس، مع مروج الزهر، مع البحر في المد والجزر، وتبدِّد السواد من كل جوانب حياتها.
عزّة لا تعزف منفردة، بل ضمن أوركسترا كاملة ومتكاملة للكفيفات من ذوي الحاجات الخاصة، اللواتي لا يقيدّهن العزف معاً، بل يعتقهن دفعةً واحدة من عالم الظلام.
تأسّست في مصر في العام 1954 جمعية “النور والأمل” لتُعنى بتأهيل المرأة الكفيفة ودمجها في المجتمع. وبعد أقل من عقد على انطلاقتها أسّست الجمعية معهداً موسيقياً لتعليم خمس عشرة فتاة أصول الموسيقى، بين النظري والتطبيق. ومع مضي الوقت، لم ينجح المعهد في الغاية التي انطلق منها فحسب، بل تمكن من تأليف أوركسترا ينصرف أعضاؤها إلى آلاتهم ليترجموا بمشاعرهم أولاً، ثم بأوتارها، أصعب المعزوفات العالمية.
بلغت الفتيات، اللواتي تتفاوت أعمارهن، هذا المستوى من الأداء بمزيج من الإرادة والشغف، يتبعهما التدريب ليُثبّت خطوات العازفات، وكلّ واحدة تروي حكايتها مع الآلة بدءاً من اختيارها، مروراً بتدريبها المتواصل عليها، وصولاً إلى اعتلائها أبرز المسارح العالمية.
تقول إحداهن أن الكمان كان خيارها لأنها تحبه، فيما تشير زميلتها إلى أنها كانت تعزف البيانو في البدء بناء على نصيحة مدربها، لكن عندما سمعت صوت الكمان أرادت تعلّمه وبشدة، وكان لها ما أرادت بعد أن كثّفت دروسها واكتسبت المهارات المطلوبة في وقت قصير.
خريطة طريق
لا تسلك الشابات الكفيفات الطريق نفسها مع “المبصرين” لبلوغ المطلوب في رحلتهن مع العزف. فالإتكال على الذاكرة كبير في غياب النوتات وقائد الأوركسترا وضابط إيقاعها بعصاه عن المسرح. ولهذا السبب تنطلق رحلة التعلّم من ترجمة النوتات كتابياً وفق لغة “برايل”، ثم قراءتها وحفظها، ولاحقاً عزفها ضمن المجموعة بشكل متجانس.
قائد الفرقة، الذي يغيب عن المشهدية، يقتصر دوره خلال العرض على الطرق بأصابعه، خلف الأوركسترا وليس أمامها، معلناً انطلاق العزف، فتعلو ألحان روسيني والسنباطي وموزارت وباخ وآخرين.
حول العالم
أتقنت أوركسترا “النور والأمل” العزف في مصر، ثم فتحت لها الموسيقى باباً إلى العالم، ما وراء البحار والمحيطات، وعزفت الشابات لساعات من “الريبرتوارات” العالمية المعروفة، غرباً وشرقاً، في ثماني وعشرين دولة، في المحيط العربي وآسيا، في أوروبا وأميركا وأستراليا، وفي القارات الخمس.
في ذاكرتهن، تحفظ العازفات الكثير عن الرحلات التي قمن بها، يتحدثن بشغف عن الحفاوة والترحيب، عن الإنصات والتقدير، وعن جماهير تبادل الإبداع بالإحترام وتحتفل للموسيقى بالبهجة. وكثيرة هي المناسبات المضيئة في سجل “رحلاتهن الموسيقية”. ففي العام 2008 عزفن في مقر اليونسكو في باريس بمناسبة الذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولاحقاً في كوفري الفرنسية، مسقط رأس لويس برايل مخترع كتابة “برايل” للمكفوفين، عزفن مرةً أخرى احتفالاً بمرور مائتي عام على ولادته.