جميلٌ في القرن الحادي والعشرين، أن تبرز شخصيَّات قرَّرت ارتداء الأبيض قلبًا وقالبًا، وراحت تنشر عبير السلام في عالمٍ نهشته أنيابُ العنف والكراهية والحكم على الآخرين. والأجمل بعد، هو أنَّ هذه الشخصيَّات على قدر عالٍ من السلطة والقدرة على التأثير، لتكون بذلك قدوةً يحتذى بها، خصوصًا في صفوف الشباب المتعطِّشين إلى صوتٍ يعبِّر عنهم وإلى أذنٍ تسمع همومهم وتساؤلاتهم.
انتشر الأسبوع الفائت بشكلٍ جنونيٍّ على مواقع الانترنت، مقطع فيديو صغير يظهر البابا فرنسيس وهو يحتضن فتًى في الثَّامنة من عمره بعدما سأله الأخير إن كان والده الملحد المتوفِّي حديثًا سيدخل الجنَّة. ما لا شكَّ فيه أنَّ جواب البابا جاء مفاجئًا للجميع، ما يفسِّر بطبيعة الحال حالة الصدمة الَّتي اجتاحت نفوس روَّاد مواقع التَّواصل الاجتماعيّ. فالبابا لم يصدر حكمًا صارمًا بحقِّ الوالد، ولم يجرِّح بالملحدين وبطريقة تفكيرهم. على العكس تمامًا، شدَّد خليفة بطرس على فكرة أنَّ الإنسان الصالح من أيِّ عقيدة كان، سينال مكافأة حسنة، لأنَّ ربَّ العباد هو أبٌ أيضًا وينظر بعين الرحمة إلى عباده. وكان البابا في رسالته إلى الفتى، يعود ليردِّد الجملة نفسها: والدك صالح. لذلك، سيعاين وجه الله!
هذه ليست المرَّة الأولى الَّتي يدعو فيها البابا فرنسيس النَّاس إلى التخلِّي عن أحكامهم المسبقة على الآخرين. فموجة الحقد والإكزينوفوبيا أو الخوف من الآخرين، بلغت حدودًا غير مسبوقة في السنوات السابقة. خوفٌ من الَّلاجئين، خوفٌ من المسلمين، خوفٌ من الملحدين، خوفٌ من المثليِّين الجنسيِّين… وجميع هذه المخاوف غير مبرَّرة ولا تستند إلى أيِّ تفسير علميٍّ أو دينيٍّ أو اجتماعيّ! للأسف، جميع هذه المشاعر، إذا صحَّ اعتبارها هكذا، تستند إلى جهل تامٍّ للدين أيًّا كان وللآخر، وعلى خطابات سياسيَّة مشحونة تهدف أساسًا إلى خدمة مصالح معيَّنة في نفس يعاقبة القرن الحادي والعشرين.
في هذا السياق، قامت صفحة “تعدُّديَّة” على موقع فايسبوك، والهادفة إلى خلق جسور من التواصل بين مختلف الأديان في لبنان، بإطلاق حملة “فينا نحكي دين”، حيث كانت تجري مقابلات قصيرة مع شخصيَّتين دينيَّتين من دينَين مختلفين أو حتَّى من نفس الدِّين، وتطلب منهم الإجابة على أكثر الأسئلة إحراجًا أو طرحًا في الشارع الُّلبنانيّ. ولقد لاقت هذه الخطوة رواجًا غير مسبوق على موقع فايسبوك، ما يظهر الظمأ الثقافي الَّذي يجتاج نفوس الشباب بشكلٍ خاص في ما يتعلَّق بالتعرُّف على الآخر.
إنطلاقًا من هنا، من الضروريّ اليوم أن يتمّ تطوير برامج تدريب تحثّ الجيل الطالع على الانفتاح على الآخر. ومن المهمّ أيضًا، أن تعلو أصوات وسطيَّة، محاوِرة، منفتحة من الوسط الدِّينيّ نفسه، لأنَّنا شئنا أو أبينا، نحنُ نعيش في كنف مجتمعٍ طائفيٍّ بامتياز. عندها، وعندها فقط، ستسقط الجدران الَّتي بُنيت بين أبناء الوطن الواحد، وتعلو مكانها دعامات عيش مشتركٍ حقيقيّ…