“لقد فعلتها يا أبي…أنا قادرة على فعلها” هذه العبارة ستبقى ترنّ في مسمعي ما دامت الدماء تسري في عروقي؛ قالتها لي ابنتي سدرة عندما كنا في أحد الملاعب المائية، حيث كانت تحاول جاهدة لأكثر من ساعة أن تجتاز طرفي بركة السباحة في إحدى الألعاب دون أن تقع في البركة.
حاولت أن أقدّم لها المساعدة، فرفضت وطلبت مني الابتعاد، فتظاهرت أنني ابتعدت عنها ولكن عيناي لم تغفل عنها ولو لثانية. كان قلبي يقع كلما وقعت في البركة… ولكنها تمكنت أخيرا من أن توازن جسمها وتجتاز البركة بدون أن تقع، عندها صاحت لي والفرحة تظهر في عينيها “لقد فعلتها يا أبي، أنا بإمكاني أن أفعلها”. فضمّمتها وقلبي يخفق فرحاً، وقلت لها “طبعا أنت بإمكانك أن تفعليها… فأنت بطلة”.
سدرة، ذات 19 ربيعا، أراد لها الله أن تكون من المصابين بمتلازمة داون، إلا أنه وهبها الوعي والذكاء والتصميم والقدرة على التعامل مع أي شخص في حياتها.
اجتماعية إلى أبعد الحدود، تحب الناس، وتعطف على الأطفال، وتهتم بكل من حولها.
يحتاج الطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة إلى عناية خاصة ومتميزة كي لا يشعر بالفرق بينه وبين غيره من الأطفال وبأنه كأي طفل آخر، ولكيلا يشعر بأنه شخص معاق أو أنه لا يستطيع ان يفعل أي شيء بنفسه.
بدأت سدرة بتلقي العناية الطبية والمعالجة الفيزيائية منذ أن كان عمرها ستة أشهر وتلقت المعالجة النطقية قبل أن تكمل ربيعها الأول.
ولدت في دمشق الفيحاء لشقيقين يكبراها سنا، ولظروف عملي وصلت سدرة إلى الولايات المتحدة وعمرها ثلاث سنوات والتحقت ببرنامج تعليمي مخصص لذوي الاحتياجات الخاصة. كانت فرحتها لا تقدر بثمن .. فقد كانت تلك المرحلة تكملة لما بدأته في سوريا وبدأت بتعلم لغة ثانية الإنكليزية. واستطاعت خلال فترة قصيرة أن تتعامل بهذه اللغة مع معلميها ورفقائها في الصف. وكان للتعليم أثر كبير في بداية حياتها.
إلا أن دور الأب والأم لم يتوقف… فلا يزال هناك وقت فراغ لديها في المنزل… وهنا يأتي دور الأم… حيث كانت تتابع ما تعلمته سدرة في المدرسة وتشجعها على الكتابة والرسم وتعلم الأحرف والأرقام.
عندما رزقنا الله شقيقتها جودي كانت سدرة قد تجاوزت الأربع سنوات .. فكانت لأختها أكثر من أمها… كانت تقلد أمها في العناية بأختها .. كانت تعتبر نفسها المسؤولة عنها في كل شيء… وكانت تعمل جاهدة لتؤمن لها ما تحتاجه… وما زالت حتى الآن.
أما دوري كأب فكان في عطلة نهاية الأسبوع .. حيث كنت أبحث عن أنشطة تحتاج إليها في حياتها وقررت أن أعلمها السباحة. كانت بداية صعبة بعض الشيء إلى أن تأقلمت مع ذلك .. حيث كانت تلبس سترة النجاة وبدأت تتعلم السباحة.
بعد فترة استاءت من سترة النجاة، فإخوتها جميعهم يسبحون في الماء العميق بدون مساعدة، وهي تعتبر نفسها مثل إخوتها، ولا ينقصها شيء.. فما كان منها يوما ما إلا أن خلعت السترة وقفزت في بركة السباحة بعمق 11 قدما.. كنت أنظر إليها وقلبي يخفق.. إلا أن الفرحة كانت أكبر عندما رأيتها تسبح وتغوص بمفردها وهي تضحك وتقول لي: أنا أعرف السباحة.
وتشارك سدرة كل عام في الألعاب الأولمبية بالولايات المتحدة ونالت عددا كبيرا من الميداليات الذهبية والفضية والبرونزية.
كما أنها تدربت على رقص الباليه.. وتقدم عروضا وتشارك في المسابقات الخاصة وهي تحبّ الرسم وتعشق الموسيقى والتكنولوجيا.
وللمدرسة دور كبير أيضا في خلق شخصية الطفل، ففي المرحلة الثانوية يقدم النظام التعليمي منهاجا لذوي الاحتياجات الخاصة يمكنهم من الاعتماد على أنفسهم في كل ما يحتاجونه. ويتعلم الطلاب النظافة الشخصية والترتيب والطبخ والتنظيف. كما تقوم المدرسة بإدماجهم في الأنشطة المدرسة حيث تشارك سدرة سنويا في المسرحية الموسيقية التي يقدمها طلاب المرحلة الثانوية.
وتقوم المدرسة أيضا بتهيئتها للعمل المناسب لها في المقاطعة التي تعيش فيها لساعات معدودة في الأسبوع أو خلال فترة الصيف.
ما أود قوله إن ذوي الاحتياجات الخاصة يمكن أن يكونوا فاعلين في مجتمعاتهم إذا تمكنا من توجيههم وتحفيزهم، ولكل منا دور في ذلك الأب والأم والأخوة والأصدقاء والمدرسة وكذلك المجتمع والدولة.
المصابون بمتلازمة داون قادرون على إدارة شؤون حياتهم بأنفسهم عند توجيههم وتقديم الرعاية المناسبة لهم. ويعتمد ذلك على طريقة التعامل معهم والأسلوب، وبالطبع على الشخص نفسه.
وذوو الاحتياجات الخاصة لن يكونوا عالة على المجتمع. ويجب أن تكون نظرة المجتمع إليهم نظرة تشجيع وليس نظرة شفقة .. وهو ما نلمسه أحيانا في بعض المجتمعات. وإن تم الاستثمار في ذوي الاحتياجات الخاصة بطريقة صحيحة وتم توجيههم وتنمية مهاراتهم، فسيكونون فاعلين ولهم دورهم المميز في المجتمع. فهم جزء لا يمكن أن يتجزأ من العالم الذي نعيشه.